من الجزائر…لمباركية نوّار يكتب: أستاذي الدكتور محمد عبد المجيد.. قامة علمية شامخة
كاتب جزائري – معهد علم الأحياء بجامعة قسنطينة سابقا – باحث في علوم التربية
انقطعت عني أخبار أستاذي الدكتور محمد عبد المجيد انقطاعا كليا قبل أن أغادر الجامعة، ومع ذلك بقيت ذكراه العطرة حية في عقلي وأحاسيسي بقاء تماوج جمال أزهار الربيع في المقل. فابتعاد الأثيرين من أمثاله عن العين لا يعني البتة انطماس صوّرهم من الذاكرة، وإن امتدت سنوات التواري وطال الاختفاء.
وها هي أطياف وأخيلة صورة شخص الدكتور محمد عبد المجيد أمام بصري، في هذه اللحظة الراهنة، بنفس بريقها ورونقها وأريحيتها وبساطتها وانشراحها وعذوبتها ودفئها المعهودة فيه، وكأنني التقيته بالأمس القريب.
فهو معتدل القامة، متناسق الجسم، وتقرأ في أسارير وجهه أرقى معاني النبل واللطافة. وتتحرك عيناه البراقتان خلف بلّور نظارة بنية اللون تغطي مساحة من محياه الصبوح، وينحرف لون بشرة جلده إلى السمرة الخفيفة.
وهو رجل هادئ في طبعه هدوء الجبال الراسيات، وتجوب الابتسامات العفوية وجهه المتلألئ ولا تكاد تغادره، وفي واحد من أسنانه الأمامية، إن لم تخني الذاكرة، كسر سفلي صغير لم يشوه بهاء انفراج شفتيه، بل تزينه.
الثقة بالنفس والتواضع أبرز الصفات في شخصية دّ محمد عبد المجيد
يتمتع الدكتور محمد عبد المجيد، واسمه الكامل: محمد إبراهيم عبد المجيد، يتمتع بثقة عالية في النفس لم أر نظيرا لها عند غيره ممن علموني.
وهو لا يتردد عن الاختلاط بالطلبة والخوض معهم في الأحاديث ومبادلتهم النكت الطريفة والمزح الخفيفة، والسؤال عن الصحة والأحوال بلهجته المصرية الجميلة. وعلى خلاف كل زملائه الأساتذة، فإنه يعتبر هو الأستاذ الوحيد الذي يحفظ أسماء أغلب طلبته، وينطقها نطقا سليما رغم وعورة بعضها وعدم اعتياده عليها.
وكان يعرف اسمي معرفة جيدة، ويناديني: “نوّار”. وهو صاحب عقل متفتح ومستنير، يميل إلى أن يكون ابن عصره بإحسانه الفصل بين ساعات الهزل وأوقات الجد. وهو عندي، وفي ما أرى، مثال حي عن الرجال المجدين التكنوقراط المتحررين من خلفيات أي انتماء سياسي أو تشيع فكري.
د. محمد عبد المجيد أستاذ جامعي يعشق الأناقة
امتلك الدكتور محمد عبد المجيد ذائقة مشحوذة ونامية في انتقاء ملابسه واختيار ألوانها وفي تصفيف شعره الذي تعتريه تجعيدات طرفية. ويبدو أنه كان من عشاق اللون البني في مرحلة شبابه. وكانت سراويله التي يرتديها عريضة ومتقنة الكي مما يزيد في جمال وقفته البهية، وترسم له ملمحا منسجما، وتمنحه منظرا مهيبا. وعندما يشتد برد مدينة قسنطينة المعروفة بمناخلها المتقلب الذي لا يثبت على حال حتى في اليوم الواحد، فلا يتحصن إلا بسترة خفيفة. ولم أره يضع ربطة عنق حول رقبته إلا مرة أو مرتين.
وما زلت أذكر أن ربطة عنقه التي لمحتها متدلية على صدره فيها أثر بارز من اللون الأخضر ممتزج بألوان أخرى، مما يعني أنه مولع بألوان الطبيعة ومحب لمناظرها الزاهية.
كان الدكتور محمد عبد المجيد مدخنا، ولكن “احترافيته” العالية في مغازلة سجائره ذوات الأعقاب الصفر التي يفضلها ويحسن إنزالها بين شفتيه، لم تدفع به إلى عتبة الإدمان المقلق. وكان كلما أراد أن يقدح ولاعته لإشعال سيجارة إلا وانسحب بعيدا عن جموعنا.
د. محمد عبد المجيد الأستاذ في محراب الجامعة
أما أثناء المحاضرة، فلم يكن يدخن على الإطلاق، مما يعني التزامه بأخلاقيات الأستاذ المربي الذي يحمل نفسه مشقة مقاطعة عاداته حتى لا يهتك بالعقد الاجتماعي الذي يربطه بطلبته.
استطاع الدكتور محمد عبد المجيد، الذي استبعد أن يكون قد قدم من الريف المصري البديع، وإنما ترعرع وتربى في واحدة من مدنها الحواضر الذي تزخر بكل عناوين التمدن، استطاع أن يستميل قلوب كل طلبته وأن يزرع في شغافها بذور المودة والألفة، ولذا كانوا يتسابقون لمصافحته في حبور وتدافع وتحيته بحرارة ومحبة بمجرد أن يطل عليهم قادما نحوهم.
وكان يعرج بنفسه على من تخلفوا لمبادلتهم السلام بكلمات ودية، وعبارات شيقة. ولم يكن يتحرج من الدخول إلى المدرج وسط كوكبة الطلبة الذين يفسحون له الممر وهو يحمل حافظة أوراقه الجلدية.
كنا نتعطش لمحاضرات الدكتور محمد عبد المجيد تعطش الأرض الجدباء لماء المطر. وكان كلما شرع في الكلام إلا وعمّ الصمت كل أرجاء المدرج من دون أن يكلف نفسه النبس بكلمة تنبيه أو إصدار إشارة توجيه.
د. محمد عبد المجيد أستاذ نجح في تبسيط العلوم لطلابه
لم يكن الدكتور محمد عبد المجيد يلقي محاضراته إلا من وقوف كمن يقرأ أجمل الشعر في حفل بهيج. وكانت تمضي الساعتان من عمر المحاضرة سريعة كلمح البرق، ولم نكن نمل أو نضجر أو نحس بتباطؤ الوقت.
كان زمن محاضرات علم وظائف أعضاء الحيوان “الفيزيولوجيا” التي يقدمها لنا الدكتور محمد عبد المجيد يبدأ من الساعة الثامنة حتى الساعة العاشرة، أي في الفترة الصباحية التي تكون فيها عقولنا مستريحة ومتأهبة للاكتساب.
وكانت كل محاضرة بمثابة رحلة علمية في جسم الإنسان، وما أودع فيه الله ـ سبحانه وتعالى ـ من أسرار وخفايا وخبايا وظيفية.
وكان الدكتور محمد عبد المجيد يوظف خبرته من أجل أن يبقي تركيز كل واحد منا في أعلى ذروته على امتداد زمن المحاضرة.
كما كان متمرسا وحاذقا في إثارة بعض الإشكاليات العلمية، بين الفينة والأخرى، حتى يجعل السجال محتدما ووجهات النظر متباينة.
وكان يتابع مناقشاتنا ملتزما الحياد، ومكتفيا بتحويل فرص الكلام من طالب إلى آخر يرغب في الإدلاء بوجهة نظره.
وبحق، فقد كنا نعيش مع أستاذنا جوّا ممتعا من الديمقراطية التي تعلم الطالب الجسارة والشجاعة الأدبية وإبداء الرأي ومحاربة التعصب لوجهة النظر الخاصة والتحرر من قهر الذاتية وسجن التزمت وأغلال الاستبداد الفكري.
وكم كان الدكتور محمد عبد المجيد ذكيا في محاولاته لتحرير بعض الطلبة من قيود أفكارهم المتحجرة التي لا يرون صوابا في سواها.
ولا نسمع كلمة الفصل التي يدلي بها أستاذنا إلا بعد أن يلمس بان الحديث قد انعطف عن سيره في الطريق العلمي المرسومة له، أو أن زمن المحاضرة قد أصبح مهددا بالانقضاء. ولم يكن صدره يضيق إن عقب أحدنا على رده.
تأثير شخصية د. محمد عبد المجيد في قلوب طلابه
تبرز فُرادة مزايا أستاذنا الدكتور محمد عبد المجيد في جانب آخر مهمل أو متروك للصدفة في أحسن الأحوال عند غيره من الأساتذة، وهو الجانب البيداغوجي، أو قل جانب “فن التّعلم” بلسان عربي فصيح. فقد تفوّق فيه، وسطع نجمه معه. ولعله بسببه استولى حتى على وجدان طلبته.
فقد كان يركز على الفهم قبل التلقين، وعلى مساعدة الطلبة لبناء معارفهم العلمية اعتمادا على القدرات الخاصة لكل واحد منهم قبل أي شيء آخر. وكان يرى في الزاد المعرفي المتراكم في صورة فوضوية ثقلا مقلقا وحملا منفرا، وفي الكثرة والاسترسال وجعا ومضرة للعقول. وكان يحسن التصرف في استعمال لوح المدرج والتحكم في الكتابة والرسم وإنجاز الخطاطات على أجزائه إلى درجة أن من يلتحق متخلفا من الطلبة لا يجد أمامه عقبة مضنية لاستدراك ما فاته بمجرد أن يلقي نظرات مركزة على تدوينات اللوح التي تعكس الأهم مما مضى مثبتا ومصنفا بفضل استعمال الألوان. وكان يتحدث ببطء، ولا يعود إلى أوراقه التي تشمل تحضيراته إلا أثناء انتقاله من نقطة من المحاضرة إلى نقطة تليها.
الأستاذ العالم ينجح في تبسيط العلوم لكل الفئات
تذكرني محاضرات أستاذي الدكتور محمد عبد المجيد بكتابات الكتاب العلميين الذي انشغلوا بتذليل المعرفة العلمية، ومحاولة تبسيط علم العلماء ليصبح في متناول أصحاب المستويات العلمية السفلى كالدكتور عبد المحسن صالح والدكتور مصطفى محمود، رحمهما الله، وغيرهما ممن ساروا في طريقهما، وسلكوا منهجهما سعيا لإشاعة المعرفة العلمية بين مختلف فئات المجتمع.
أجد نفسي الآن بعد أن حصنت مكتسباتي في الجانب البيداغوجي، أتحدث عن مرب قدير ومتمكن بيداغوجيا. واعتذر إن حضرني هذا الاكتشاف متأخرا. وإنني أضع أسئلته الاستبهامية التي كثيرا ما يفتتح بها محاضراته لاستثارة أذهاننا وفي نظيراتها التي يرمي بها بين اللحظة والأخرى من زمن المحاضرة في خانة ما يساعدنا على تجديد شغفنا بعملية التّعلم، وتقوية رغباتنا حتى لا يعصف بها التراخي ويهجم عليها الفتور.
وكان يعتمد “النمذجة” التي أصبحت في أيامنا صنفا من أصناف المعرفة من أجل أن يمهد لنا سبل الوصول إلى المعلومات الجديدة التي يتصيدها، ومن أمثلة ذلك، أذكر أنه كان يشبه الغدة النخامية في سيطرتها على أغلب وظائف غدد الجسم بما فيها الغدد الصم بـ: “رئيسة الجوق Le chef d’orchestre”وينعت الشكل الذي تظهر عليه الغدة الكظرية بـ: حبة الفاصولياء… إلخ. وكانت هذه المماثلات الشيقة ترسخ الحصائل المعرفية في أذهاننا، وتكتب لها امتداد العمر.
كيف واجه الأستاذ ثقافة الاختلاف في مجتمع محافظ؟
يلتحم علم وظائف أعضاء الحيوان وبما في ذلك الإنسان، وإن كان هذا التوضيح الذي يبني فواصل بين الحيوانات والإنسان غير مستحب تماما عند دارسي علوم الأحياء، يلتحم بالدراسة الشكلية “المورفولوجيا”، ويقتفي أثره. ولذا صح قول القائل: (إن الوظيفة هي التي تصنع العضو). والاختلاف في الشكل بين الذكر والأنثى يفرض تباينا معلما في المناحي الوظائفية. ولم يكن تدريس وظائف الغدد الجنسية أمام طلبة يمرون بأعنف مرحلة عمرية من ذكور وإناث بالمسلك الممهد والخالي من الأخطار والعوائق الذي يمكن تجاوزها بلا احتراز.
وقلما ينجو أستاذ من عبور هذا النفق، والخروج منه سالما اعتبارا لحساسيته في وسط اجتماعي محافظ إلى حد الانغلاق.
ورغم هذه المخاوف التي تقف كحجرات عثرة، فإن الدكتور محمد عبد المجيد استطاع أن يدخل بنا في عباب هذا اليم المعرفي المتلاطم، وأن يخترق حجب ظلمته بنفس واثقة لم تغادر أحواز العلم ولم تغدر بأدب الفصول الدراسية. وكان صمت المدرج في هذه المحاضرات التي كانت تشبه الأحاديث الممنوعة يغرق في سكينة شبيهة بسكينة أهل المقابر. ولم تكن الأعين تتجمع للتركيز في ملامح وجهه من فرط الحياء في المحاضرة الأولى التي مهد لها منذ اللحظات الأولى بكلمات حوت قدرا من التوطئة والتهيئة التي صاغها في عبارات تشبه الاستئذان من كل طلبته،. وخاصة أولئك الذين يقيمون حواجز سرابية يصعب هدها أو تحطيمها، ويفضلون حفظ أنفسهم في شرنقة ترفض التواصل والتفاعل اليسيرين.
وكان أستاذنا الفاضل الدكتور محمد عبد المجيد الذي أشبهه بحامل المسك الذي لا يتوقف عن توزيعه على طلبته من دون مفاضلة أو تفريق، كان ذكيا ذكاءً مفرطا وحادا، وكان يحسن التصرف بلطف وحذاقة في كل المواقف.
قبل أن اختم هذه السطور، اعترف لأستاذي الدكتور محمد عبد المجيد بأنني لم أوفه حقه ولو خصصت له كتابا كاملا للحديث عنه كمرب أبرع في إثبات سمو واكتمال هلال العبقرية المصرية التي تستهويني وتأخذ حتى بأهداب لبابي، والتي لا يمكن إنكارها أو جحودها أو سحب سدائل التكتم عليها.
فلقد كان، بحق وصدق، سفيرا لبلده في حاضرة علمية مرموقة بالجزائر هي مدينة قسنطينة، ولم يكن مجرد أستاذ جامعي مرسل في بعثة تعاون.
أدعو لأستاذي الجليل الدكتور محمد إبراهيم عبد المجيد بطول الأنفاس والبركة في العمر وفي العطاء العلمي، وأرجو من الله أن يمده بالصحة والعافية.
مع دوام حبي وتقديري لأستاذي الفاضل والكريم.